إذا كان لدى أبناء البصرة وذي قار وبغداد عشرة أسباب للاحتجاج والتظاهر، فإنّ لدينا في الأنبار ألف سبب وسبب.
الحقيقة المستقرة لدى السكّان هنا هي أن أي تململ أو أي تجمّع بالشارع سيواجه بالرصاص الحي دون تردّد على أساس أنّه عمل إرهابي من تدبير تنظيم داعش.
ظهرت تساؤلات كثيرة في وسائل الإعلام عن عدم مشاركة المناطق السنية في العراق في الاحتجاجات المطلبية التي اندلعت في بغداد ومحافظات جنوبية منذ الأول من أكتوبر تشرين 2019م.
وخلال الاحتجاجات التي اندلعت في بغداد وانتقلت إلى مدن جنوبية، قتل حتى الآن المئات وأصيب الآلاف نتيجة القمع الذي مارسته السلطات بحقهم عبر استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي.
تظهر خارطة توزيع الاحتجاجات الجارية في العراق حسب المحافظات، أنّ المناطق المنتفضة بوجه النظام هي مناطق وسط وجنوب البلاد حيث تتركّز الطائفة الشيعية التي تعتبر الحاضنة الأساسية للنظام نفسه، فيما المحافظات الشمالية والغربية ظلّت هادئة خلال موجة الاحتجاج العارمة التي تشهدها البلاد منذ مطلع الشهر الجاري.
وعمّت الاحتجاجات محافظات بغداد وبابل والنجف والديوانية وكربلاء وواسط وميسان والمثنى وذي قار والبصرة، بينما ظلّت محافظات ديالى وصلاح الدين وكركوك والأنبار ونينوى هادئة.
أمّا المحافظات الثلاث المشكّلة لإقليم كردستان العراق، السليمانية وأربيل ودهوك، فلها وضعها الخاص وقضاياها المرتبطة بأوضاع الإقليم شبه المستقلّ، والتي تجعل سكانها لا يتفاعلون كثيرا مع ما يجري في باقي أنحاء العراق.
ولا يعني ذلك، وفق المتابعين للشأن العراقي، أنّ أبناء السّنّة آثروا موقع المتفرّج على أبناء الطائفة الشيعية وهم يصفّون حساباتهم مع النظام المنبثق منهم، بعد أن اضطهدهم هذا النظام وأفقرهم طيلة أكثر من عقد ونصف العقد من الزمن، ولكن هناك موانع ومحاذير تمنع أبناء المحافظات السنية شمال وغرب العراق من التظاهر.
وعلى رأس تلك الموانع الأوضاع الأمنية الهشّة وتهمة الإرهاب الجاهزة التي سيُواجه بها أي تحرّك شعبي في تلك المحافظات التي تشارك ميليشيات شيعية في مسك ملفها الأمني بعد استعادتها من تنظيم داعش إثر حرب طاحنة دارت على مدى أكثر من ثلاث سنوات وأوقعت قتلى وجرحى بالآلاف، وخلّفت دمارا هائلا في البنى التحتية وشرّدت الملايين الذين لا يزال مئات الآلاف منهم في المناطق التي نزحوا إليها.
وعلى الرغم من أنّ تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وارتفاع نسب الفقر والبطالة، أصبحت بعد 16 سنة من حكم الأحزاب الدينية ظواهر عامّة في العراق تطال مختلف مناطقه، إلاّ أن الأوضاع القائمة في مناطق السنّة بالعراق لا تقارن بما هي عليه في باقي المناطق.
وتشارك أحزاب وشخصيات سنّية في العملية السياسية الجارية بالعراق منذ سقوط نظام الرئيس الأسبق صدّام حسين، لكنّ حضورها في مدارج السلطة ومواقع أخذ القرار كثيرا ما يوصف بالهامشي، وأن دور تلك الشخصيات والأحزاب هو تجميل حكم الأحزاب الشيعية وإضفاء مسحة من التشاركية الشكلية عليه.
وقال أحد سكان مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار بغرب العراق “إذا كان لدى أبناء البصرة وذي قار وبغداد عشرة أسباب للاحتجاج والتظاهر، فإنّ لدينا في الأنبار ألف سبب وسبب”. ويضيف “الحقيقة المستقرة لدى السكّان هنا هي أن أي تململ أو أي تجمّع بالشارع سيواجه بالرصاص الحي دون تردّد على أساس أنّه عمل إرهابي من تدبير تنظيم داعش”.
وكان أبناء محافظات شمال وغرب العراق يشتكون التهميش من برامج التنمية الضعيفة أصلا في العراق، إلى أن غزا تنظيم داعش أجزاء واسعة من مناطقهم الأمر الذي أتاح الفرصة للعشرات من الميليشيات الشيعية لدخول تلك المناطق للمشاركة في مواجهة التنظيم والبقاء هناك بذريعة منع عودته مجدّدا.
وسط تصاعد وتيرة احتجاجات العراق.. الغموض يكتنف مصير عبد المهدي وتعاني المناطق الغربية في العراق، وتشمل محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى، من مستوى تردي الخدمات والفساد ذاته المنتشر على نطاق واسع في العراق.
ويعزو الكاتب والمحلل عمر الشاهر سبب عدم خروج المناطق السنية إلى عدة عوامل، من أبرزها “تخوف السكان من تكرار تجربة التظاهرات التي انطلقت في هذه المناطق عام 2013 وانتهت باجتياح تنظيم داعش لمناطقهم بعدها بنحو عام واحد”.
وخرجت المحافظات الغربية بتظاهرات حاشدة واعتصامات في عام 2013، ضد رئيس الحكومة آنذاك، نوري المالكي، تطالب باستقالته من منصبه وتتهمه بالطائفية وبتهميش السنة والتضييق على رموزهم في البلاد.
ويضيف الشاهر في حديث لموقع قناة الحرة أن “تجربة التظاهرات في المناطق السنية انتهت بمأساة، بدأت بسيطرة تنظيم داعش وانتهت بتدمير المدن السنية وتهجير سكانها”.
ويتابع الشاهر أن “أولويات المناطق السنية، حاليا، تختلف عن باقي مدن العراق، التي ترغب في تحسين الخدمات ورفع المستوى المعيشي وغيرها، مشيرا إلى أن سكان مناطق السنة يضعون الأمن في مقدمة اهتماماتهم و لا يرغبون في خسارته”.
ويتمثل العامل الثاني في أن “السنة يعتقدون أن أي نزول للشارع في هذا الوقت سيعطي السلطات الحجة لقمعهم باعتبار أن المبررات جاهزة لذلك، ومن بينها أن المحتجين مرتبطون بتنظيم داعش أو بحزب البعث” وفقا للشاهر.
وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الأخيرة في بغداد وباقي المحافظات انطلقت من مناطق شيعية، إلا أن السلطات وبعض المسؤولين والقوى السياسية الموالية لإيران تزعم أنها مرتبطة بأجندات خارجية وتقف وراءها دول وسفارات وبعثيون لزعزعة الأمن في البلاد.
ويشير الشاهر أيضاً إلى أن “هذه الاتهامات للمناطق الشيعية تجعل من الصعب على المناطق السنية الخروج بتظاهرات لأن التهمة لهم ستكون جاهزة، إضافة لذلك فإن السنة يتخوفون أن تؤثر تظاهراتهم على زخم الاحتجاجات في مدن الجنوب، باعتبار أن السلطات يمكن أن تستغل ذلك لربط هذه الاحتجاجات ببعضها وبالتالي قمعها بشكل وحشي”.
ويختم الشاهر بالقول إن “السنة سيبقون متفرجين على ما يجري في العراق من احتجاجات، لأنهم ببساطة بين نارين، نار الاتهامات بالتخاذل في حال عدم مشاركتهم، أو النزول للشارع ومواجهة الاتهامات بالبعثية والانتماء لداعش”.
اترك رد